فصل: الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.القاعدة الثانية: فيما هو حق الله، وما هو حق المكلف:

أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، إن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فحكمها حق خالص لله وليس للمكلف فيه خيار، وتنفيذه لولي الأمر. وإن كان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص للمكلف وله في تنفيذه الخيار. وإن كان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف معاً، ومصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو حق خالص لله، وإن كانت مصلحة المكلف فيها أظهر، فحق المكلف فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف.
القاعدة التشريعية الأولى تضمنت أن أحكام الإسلام بوجه عام إنما قصد بها تحقيق مصالح الناس، وهذه القاعدة التشريعية الثانية تضمنت أن المصلحة التي قصد بتشريع الحكم تحقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع، وقد تكون مصلحة خاصة للفرد، وقد تكون مصلحة لهما معاً.
المراد بما هو حق الله ما هو حق المجتمع وشرع حكمه للمصلحة العامة لا لمصلحة فرد خاص، فلكونه من النظام العام، ولم يقصد به نفع فرد بخصوصه نسب إلى رب الناس جميعهم، وسمي حق الله.
المراد بما هو حق المكلف ما هو حق الفرد، وشرع حكمه لمصلحته خاصة، وقد ثبت بالاستقراء أن أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، منها ما هو حق خالص لله، ومنها ما هو حق خالص للمكلف، ومنها ما اجتمع فيه الحقان، حق الله غالب، ومنها ما اجتمع فيه الحقّان، وحق المكلف غالب.
فأما ما هو حق خالص لله فهو منحصر بالاستقراء فيما يأتي:
1- العبادات المحضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، فأن هذه العبادات وأسسها مقصود بها إقامة الدين وهو ضروري لنظام المجتمع، وحكمة تشريع كل عبادة منها على أنها لمصلحة عامة أي لمصلحة المكلف وحده.
2- العبادات التي فيها معنى المئونة كصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله بالصدقة للفقراء والمساكين، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى الضريبة على النفس، لبقائها وحفظها، وهذا مرادهم بأن فيها معنى المئونة، ولهذا لا تجب على الإنسان عن نفسه فقط، بل تجب عليه عن نفسه وعمن يعولهم منن هم في ولايته، كابنه الصغير وخادمه. ولو كانت عبادة محضة ما وجبت على الإنسان إلا على نفسه، وكان ينبغي أن تعد الزكاة من هذا النوع من الأول وهو العبادات المحضة، لأن الزكاة عبادة فيها معنى الضريبة على المال لبقائه وحفظه، ولهذا تجب على رأي جمهور المجتهدين في مال فاقد الأهلية كالصبي، والمجنون، ولو كانت عبادة محضة ما وجبت إلا على البالغ العاقل.
3- الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية، سواء أكانت عشرية أم خراجية، وسواء أكان المفروض على الأرض العشرية العشر أم نصف العشر، والمفروض على الأرض الخراجية خراج وظيفة أم خراج مقاسمة، فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في المصالح العامة التي يقتضيها بقاء الأرض في يد أربابها واستثمارها كإصلاح طرق الري والصرف، وإقامة الجسور، وتمهيد الطرق وحمايتها من العدوان عليها، ومعونة الفقراء، والمساكين، وغير ذلك مما تستوجبه المصلحة العامة والتأمين الاجتماعي.
وقد أطلق الأصوليين على ضريبة الأرض العشرية أنها مئونة فيها معنى العبادة، وعلى ضريبة الأرض الخراجية أنها مئونة فيها معنى العقوبة. أما العلة في أن كلاً منهما مئونة فظاهرة، لن مئونة الشيء ما به بقاؤه، وهذه الضريبة بها الأرض في أيدي أهلها مستثمرة غير معتدى عليها. وأما العلة في أن ضريبة الأرض العشرية فيها معنى العبادة فظاهرة أيضاً، لأن زكاة الخارج من الأرض تصرف مصارف الزكاة. وأما العلة في أن ضريبة الأرض الخراجية فيها معنى العقوبة فغير ظاهرة، لأن الخراج ضريبة وضعها عمر بن الخطاب على الأرض الزراعية التي استبقيت في أيدي غير المسلمين ليصرفها في المصالح العامة نظير الضريبة التي فرضها الله على الأرض التي في أيدي المسلمين لصرفها في المصالح العامة. والآراء التي تبودلت بين عمر وكبار الصحابة في وضع هذه الضريبة لا يؤخذ منها أن فيها معنى العقوبة.
4- الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد، وفيما يوجد في باطن الأرض من الكنوز والمعادن، فإن الشارع جعل أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وخمسها لمصالح عامة بينها الله في القرآن بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، وجعل أربعة أخماس ما يوجد من المعادن والكنوز للواجد، وخمسة لمصالح عامة بينها.
5- أنواع من العقوبات الكاملة وهي، حد الزنا، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً فهي لمصلحة المجتمع كله.
6- نوع من العقوبات القاصرة، وهو حرمان القاتل من الإرث فهو عقوبة قاصرة، لأنه عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني، أو غرم مالي، وهو حق الله لأنه ليس فيه نفع للمقتول.
7- وعقوبات فيها معنى العبادة، كالكفارة لمن حنث في يمينه، والكفارة لمن أفطر في رمضان عمداً، والكفارة لمن قتل خطأ أو ظاهر زوجته، فهي عقوبة لأنها وجبت جزاء على معصية، ولهذا سميت كفارة، أي ستارة للإثم، وفيها معنى العبادة لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم، أو صدقة، أو تحرير رقبة.
فهذه الأنواع كلها حق خالص لله، وتشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، وليس للمكلف الخيرة فيها، وليس له إسقاطها، لأن المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه، ولا يملك أن يسقط صلاة أو صوماً أو حجاً أو زكاة أو صدقة واجبة، أو ضريبة مفروضة، أو عقوبة من هذه العقوبات لأنها ليست حقه.
وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله:
تضمين من أتلف المال بمثله أو قيمته، هو حق خالص لصاحب المال عن شاء ضمن وإن شاء ترك، وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن، واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع أثبت هذه الحقوق لأربابها، وهم لهم الخيرة إن شاءوا استوفوا حقوقهم، وإن شاءوا أسقطوها، ونزلوا عنها، لأن لكل مكلف الحق في أن يتصرف في حق نفسه، وهذه ليست من المصالح العامة.
وأما ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه غالب:
فهو حد القذف، لأنه من جهة أنه صيانة لأغراض الناس، ومنع من التعادي والتقاتل يحقق مصلحة عامة، فيكون من حق الله، ومن جهة أنه دفع للعار عن المحصنة التي قذفت وإعلان لشرفها وحصانتها يحقق مصلحة خاصة بها فيكون من حق الفرد، ولكن الجهة الأولى أظهر في العقوبة، فلهذا كان حق الله غالباً فيها، فليس للمقذوفة أن تسقط الحد عن قاذفها لأنها لا تملك إسقاط حد غلب حق الله فيه، وليس لها أن تقيم الحد بنفسها لأن الحدود التي هي حق خالص لله أو يغلب فيها حق الله لا يقيمها إلا الحكومة، وليس للمجني عليه أن يقيمها بنفسه.
وأما ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف فيه غالب:
فهو القصاص من القاتل العامد، فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم يحقق مصلحة عامة، ومن جهة أن فيه شفاء صدور أولياء المقتول، وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل يحقق مصلحة خاصة، ولكن الجهة الثانية غلبت، ولهذا كان حق المكلف غالباً معه، ولو جاز لولي المقتول أن يعفو فلا يقتص منه، ولا يقتص من القاتل ألا بناء على طلب ولي المقتول.
ومن هذا يؤخذ أن العقوبات المقدرة في القرآن وهي الحدود الشرعية الخمسة، منها ما هو حق خالص لله، وهي حد الزنا، وحد السرقة، وحد السعي في الأرض فساداً بالخروج على الجماعة، ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب فيه، وهو حد قذف المحصنات. وفي هذين لا يملك المجني عليه العفو عن الجاني، ولا يملك أن يتولى عقابه بنفسه، لأن حق الله خالصاً أو غالباً لا يملك المكلف إسقاطه، والمنوط باستيفائه الإمام العام الحكومة. ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق المكلف غالب فيه، وهو القصاص، فللمجني عليه أن يعفوا عن القاتل، وإذا حكم على القاتل بالقصاص كان له أن يتولى تنفيذ الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178].
ومما تقدم يتبين أمران:
أولهما: أن كل حدّ من الحدود الشرعية فيه حق لله، أي للمجتمع، ولكن هذا الحق قد يكون خالصاً، وقد يكون معه حق للفرد، إما راجحاً وأما مرجوحاً.
وثانيهما: أن الشريعة الإسلامية تفترق والنظرية الجنائية في قوانيننا الوضعية في عقوبة القصاص من القاتل العامد، وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها.
ففي عقوبة القصاص من القاتل العامد:
الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة فيها حق للمجني عليه وهو ولي المقتول، وفيها حق الله أي المجتمع، وجعلت حق المجني عليه أرجح، ورتبت على أن فيها حقاً راجحاً للمجني عليه أنها جعلت الحق له في رفع الدعوى بطلب الحكم بالقصاص، وجعلت له الحق إذا حكم بالقصاص أن يعفو، وأن يتولى التنفيذ. ورتبت على أن فيها حقاً لله وأن للحكومة في حال عفو المجني عليه أن تعاقب الجاني بما تراه رادعاً له ولغيره، لأن نزول أحد صاحبي الحق عن حقه لا يسقط حق الآخر.
وأما القوانين الوضعية فقد جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على القاتل من اختصاص النيابة العمومية، ولا يملك المجني عليه عفواً ولا مباشرة تنفيذ، وحق العفو ومباشرة التنفيذ هو لولي الأمر العام.
وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها:
الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة حقاً خالصاً لله أي للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على الزانية من اختصاص النيابة العمومية، وتنفيذ الحكم من اختصاص السلطة التنفيذية، ولا يملك زوجها ولا أي فرد غيره وقف إجراءات الدعوى عليها، ولا وقف تنفيذ الحكم عليها بعد صدوره.
وأما في القوانين الوضعية، فلا ترفع الدعوى إلا بشكوى من زوجها، وله أن يوقف إجراءات الدعوى عليها، وإذا حكم عليها، فله أن يوقف تنفيذ الحكم برضاه بمعاشرتها.

.القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه:

لا مساغَ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي.

.الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين:

هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية.
فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب لأن ينفذ فيها ما دل عليه النص، لأنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث وبذل جهد. وما دام قطعي الدلالة فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد. وعلى هذا فآيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة، وتحتمل تأويلاً يجب تطبيقها، ولا مجال للاجتهاد في الوقائع التي تطبق فيها، ففي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، لا مجال للاجتهاد في عدد الجلدات. وكذلك في كل عقوبة أو كفارة مقدرة. وفي قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، بعد أن فسرت السنة العلمية المراد من الصلاة أو الزكاة، لا مجال للاجتهاد في تعرف المراد من أحدهما. فما دام النص صريحاً مفسراً بصيغة أو بما ألحقه الشارع به من تفسير وبيان، فلا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه. ومثل هذه الآيات القرآنية المفسرة السنن المتواترة المفسرة، كحديث الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها ومقدار الواجب فيه.
أما إذا كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظني الورود والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال، لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول، ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل. فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العلمية.
فإن أداة اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، واجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام وما يطبق فيه من الوقائع، لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد. وقد يكون عاماً، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون على صيغة الأمر والنهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره. وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاماً، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق.
وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلاً ففيها مجال متسع للاجتهاد، لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة.
فالخلاصة: أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلاً، وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي.
وعلى هذا أصول التيقين الوضعي، فقد جاء كتاب أصول القوانين: الأصل، أنه ما دام القانون صريحاً فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، لبناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل، لأن مرجع ذلك إلى المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.
وجاء في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه: (إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل). فما دام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضي به.